فصل: ذكر خبر ردة اليمن ثانية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر ردة أهل البحرين:

لما قدم الجارود بن المعلى العبدي على النبي، صلى الله عليه وسلم، وتفقه ردة إلى قومه عبد القيس، فكان فيهم. فلما مات النبي، صلى الله عليه وسلم، وكان المنذر بن ساوى العبدي مريضاً فمات بعد النبي، صلى الله عليه وسلم، بقليل. فلما مات المنذر بن ساوى ارتد بعده أهل البحرين؛ فأما بكر فتمت على ردتها، وأما عبد القيس فإنهم جمعهم الجارود وكان بلغه أنهم قالوا: لو كان محمد نبياً لم يمت. فلما اجتمعوا إليه قال لهم: أتعلمون أنه كان لله أنبياء فيما مضى؟ قالوا: نعم. قال: فما فعلوا؟ قالوا: ماتوا. قال: فإن محمداً، صلى الله عليه وسلم، قد مات كما ماتوا، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. فأسلموا وثبتوا على إسلامهم. وحصرهم أصحاب المنذر بعده حتى استنقذهم العلاء بن الحضرمي. واجتمعت ربيعة بالبحرين على الردة إلا الجارود ومن تبعه وقالوا: نرد الملك في المنذر بن النعمان بن المنذر، وكان يسمى الغرور. فلما أسلم كان يقول: أنا المغرور ولست بالغرور.
وخرج الحطم بن ضبيعة أخو بني قيس بن ثعلبة في بكر بن وائل فاجتمع إليه من غير المرتدين ممن لم يزل مشركاً حتى نزل القطيف وهجر، واستغووا الخط ومن بها من الزط والسبابجة، وبعث بعثاً إلى دارين، وبعث إلى جواثا فحصر المسلمين، فاشتد الحصر على من بها، فقال عبد الله بن حذف، وقد قتلهم الجوع:
ألا أبلغ أبا بكرٍ رسولاً ** وفتيان المدينة أجمعينا

فهل لكم إلى قومٍ كرامٍ ** قعودٍ في جواثا محصرينا

كأن دماءهم في كل فجٍّ ** شعاع الشمس يغشى الناظرينا

توكلنا على الرحمن إنا ** وجدنا النصر للمتوكلينا

وكان سبب استنقاذ العلاء بن الحضرمي إياهم أن أبا بكر كان قد بعثه على قتال أهل الردة بالبحرين، فلما كان بحيال اليمامة لحق به ثمامة بن أثال الحنفي في مسلمة بني حنيفة، ولحق به أيضاً قيس بن عاصم المنقري وأعطاه بدل ما كان قسم من الصدقة من موت النبي، صلى الله عليه وسلم، وانضم إليه عمرو والأبناء، وسعد بن تميم والرباب أيضاً لحقته في مثل عدته، فسلك بهم الدهناء حتى إذا كانوا في بحبوحتها نزل وأمر الناس بالنزول في الليل، فنفرت إبلهم بأحمالها، فما بقي عندهم بعير ولا زاد ولا ماء، فلحقهم من الغم ما لا يعلمه إلا الله، ووصى بعضهم بعضاً فدعاهم العلاء فاجتمعوا إليه، فقال: ما هذا الذي غلب عليكم من الغم؟ فقالوا: كيف نلام ونحن إن بلغنا غداً لم تحم الشمس حتى نهلك. فقال: لن تراعوا، أنتم المسلمون وفي سبيل الله وأنصار الله، فأبشروا فوالله لن تخذلوا.
فلما صلوا الصبح دعا العلاء ودعوا معه، فلمع لهم الماء، فمشوا إليه وشربوا واغتسلوا. فما تعالى النهار حتى أقبلت الإبل تجمع من كل وجه فأناخت إليهم فسقوها. وكان أبو هريرة فيهم، فلما ساروا عن ذلك المكان قال لمجاب بن راشد: كيف علمك بموضع الماء؟ قال: عارف به. فقال له: كن معي حتى تقيمني عليه. قال: فرجعت به إلى ذلك المكان فلم نجد إلا غدير الماء فقلت له: والله لولا الغدير لأخبرتك أن هذا هو المكان، وما رأيت بهذا المكان ماء قبل اليوم، وإذا إداوة مملوة ماء. فقال أبو هريرة: هذا والله المكان، ولهذا رجعت بك وملأت إداوتي ثم وضعتها على شفير الغدير وقلت: إن كان منا من المن عرفته، وإن كان عيناً عرفته، فإذا من المن فحمد الله.
ثم ساروا فنزلوا بهجر، وأرسل العلاء إلى الجارود يأمره أن ينزل بعبد القيس على الحطم مما يليه، وسار هو فيمن معه حتى نزل عليه مما يلي هجر، فاجتمع المشركون كلهم إلى الحطم إلا أهل دارين، واجتمع المسلمون إلى العلاء، وخندق المسلمون على أنفسهم والمشركون وكانوا يتراوحون القتال ويرجعون إلى خندقهم، فكانوا كذلك شهراً. فبينا هم كذلك سمع المسلمون ضوضاء هزيمة أو قتال العلاء: من يأتينا بخبر القوم؟ فقال عبد الله بن حذف: أنا، فخرج حتى دنا من خندقهم، فأخذوه. وكانت أمه عجلية، فجعل ينادي: يا أبجراه! فجاء أبجر من بجير فعرفه فقال: ما شأنك؟ فقال: علام أقبل وحولي عساكر من عجل وتيم اللات وغيرهما؟ فلخصه، فقال له: والله إني لأظنك بئس ابن أخت أتيت الليلة أخوالك. فقال: دعني من هذا وأطعمني فقد مت جوعاً. فقرب له طعاماً، فأكل، ثم قال: زودني واحملني، يقول هذا الرجل قد غلب عليه السكر، فحمله على بعير وزوده وجوزه، فدخل عسكر المسلمين فأخبرهم أن القوم سكارى، فخرج المسلمون عليهم فوضعوا فيهم السيف كيف شاؤوا، وهرب الكفار، فمن بين متردد وناجٍ ومقتول ومأسور، واستولى المسلمون على العسكر ولم يفلت رجل إلا بما عليه.
فأما أبجر فأفلت، وأما الحطم فقتل، قتله قيس بن عاصم بعد أن قطع عفيف بن المنذر التميمي رجله. وطلبهم المسلمون فأسر عفيفٌ المنذر بن النعمان بن المنذر الغرور فأسلم. وأصبح العلاء فقسم الأنفال ونفل رجالاً من أهل البلاء ثياباً، فأعطى ثمامة بن أثال الحنفي خميصة ذات أعلام كانت للحطم يباهي بها. فلما رجع ثمامة بعد فتح دارين رآها بنو قيس بن ثعلبة فقالوا له: أنت قتلت الحطم! فقال: لم أقتله ولكني اشتريتها من المغنم. فوثبوا عليه فقتلوه.
وقصد عظم الفلال إلى دارين فركبوا إليها السفن ولحق الباقون ببلاد قومهم. فكتب العلاء إلى من ثبت على إسلامه من بكر بن وائل، منهم عتيبة ابن النهاس والمثنى بن حارثة وغيرهما، يأمرهما بالقعود للمنهزمين والمرتدين بكل طريق، ففعلوا، وجاءت رسلهم إلى العلاء بذلك، فأمر أن يؤتى من وراء ظهره، فندب حينئذٍ الناس إلى دارين وقال لهم: قد أراكم الله من آياته في البر لتعتبروا بها في البحر، فانهضوا إلى عدوكم واستعرضوا البحر. وارتحل وارتحلوا حتى اقتحم البحر على الخيل والإبل والحمير وغير ذلك، وفيهم الراجل، ودعا ودعوا. وكان من دعائهم: يا أرحم الراحمين، يا كريم، يا حليم، يا أحد، يا صمد، يا حي، يا محيي الموتى، يا حي يا قيوم لا إله إلا أنت يا ربنا! فاجتازوا ذلك الخليج بإذن الله يمشون على مثل رملة فوقها ماء يغمر أخفاف الإبل، وبين الساحل ودارين يوم وليلة لسفن البحر، فالتقوا واقتتلوا قتالاً شديداً، فظفر المسلمون وانهزم المشركون، وأكثر المسلمون القتل فيهم فما تركوا بها مخبراً وغنموا وسبوا، فلما فرغوا رجعوا حتى عبروا، وضرب الإسلام فيها بجرانه.
وكتب العلاء إلى أبي بكر يعرفه هزيمة المرتدين وقتل الحطم. وكان مع المسلمين راهب من أهل هجر، فأسلم فقيل له: ما حملك على الإسلام؟ قال: ثلاثة أشياء خشيت أن يمسخني الله بعدها: فيض في الرمال، وتمهيد أثباج البحر، ودعاء سمعته في عسكرهم في الهواء سحراً: اللهم أنت الرحمن الرحيم لا إله غيرك، والبديع فليس قبلك شيء، والدائم غير الغافل، الحي الذي لا يموت وخالق ما يرى وما لا يرى، وكل يوم أنت في شأن، علمت كل شيء بغير علم. فعلمت أن القوم لم يعانوا بالملائكة إلا وهم على حق، فكان أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، يسمعون هذا منه بعد.
عتيبة بعد العين تاء معجمة باثنتين من فوقها، وياء تحتها نقطتان، ثم باء موحدة. وحارثة بحاء مهملة، وثاء مثلثة.

.ذكر ردة أهل عمان ومهرة:

قد اختلف في تاريخ حرب المسلمين هؤلاء المرتدين، فقال ابن إسحاق: كان فتح اليمامة واليمن والبحرين وبعث الجنود إلى الشام سنة اثنتي عشرة، وقال أبو معشر ويزيد بن عياض بن جعدبة وأبو عبيدة بن محمد بن عمار ابن ياسر: إن فتوح الردة كلها كانت لخالد وغيره سنة إحدى عشرة، إلا أمر ربيعة بن بجير فإنه كان سنة ثلاث عشرة، وقصته: أنه بلغ خالد بن الوليد أن ربيعة بالمصيخ والحصيد في جمع من المرتدين فقاتله وغنم وسبى وأصاب ابنة لربيعة فبعث بها إلى أبي بكر، فصارت إلى علي بن أبي طالب.
وأما عمان فإنه نبغ بها ذو التاج لقيط بن مالك الأزدي، وكان يسامي في الجاهلية الجلندى، وادعى بمثل ما ادعى من تنبأ، وغلب على عمان مرتداً، والتجأ جيفر وعياذ إلى الجبال، وبعث جيفر إلى أبي بكر يخبره ويستمده عليه، وبعث أبو بكر حذيفة بن محصن الغلفاني من حمير، وعرفجة البارقي من الأزد؛ حذيفة إلى عمان، وعرفجة إلى مهرة، وكل منهما أمير على صاحبه في وجهه، فإذا قربا من عمان يكاتبان جيفراً. فسار إلى عمان، وأرسل أبو بكر إلى عكرمة بن أبي جهل، وكان بعثه إلى اليمامة، فأصيب. فأرسل إليه أن يلحق بحذيفة وعرفجة بمن معه يساعدهما على أهل عمان ومهرة، فإذا فرغوا منهم سار إلى اليمن. فلحقهما عكرمة قبل عمان، فلما وصلوا رجاماً، وهي قريب من عمان، كاتبوا جيفراً وعياذاً، وجمع لقيط جموعه وعسكر بدبا، وخرج جيفر وعياذ وعسكرا بصحار وأرسلا إلى حذيفة وعكرمة وعرفجة، فقدموا عليهما، وكاتبوا رؤساء من لقيط وارفضوا عنه، ثم التقوا على دبا فاقتتلوا قتالاً شديداً، واستعلى لقيط، ورأى المسلمون الخلل، ورأى المشركون الظفر. فبينما هم كذلك جاءت المسلمين موادهم العظمى من بني ناجية وعليهم الخريت بن راشد، ومن عبد القيس وعليهم سيحان بن صوحان، وغيرهم، فقوى الله المسلمين، بهم ووهن بهم أهل الشرك فولى المشركون الأدبار، فقتل منهم في المعركة عشرة آلاف وركبوهم حتى أثخنوا فيهم وسبوا الذراري وقسموا الأموال وبعثوا بالخمس إلى أبي بكر مع عرفجة، وأقام حذيفة بعمان حتى يوطىء الأمور يسكن الناس.
وأما مهرة فإن عكرمة بن أبي جهل سار إليهم لما فرغ من عمان ومعه من استنصر من ناجية وعبد القيس وراسب وسعد، فاقتحم عليهم بلادهم، فوافق بها جمعين من مهرة أحدهما مع سخريت رجل منهم من بني شخراة، والثاني مع المصبح، أحد بني محارب، ومعظم الناس معه، وكانا مختلفين. فكاتب عكرمة سخريتاً، فأجابه وأسلم، وكاتب المصبح يدعوه فلم يجب، فقاتله قتالاً شديداً، فانهزم المرتدون وقتل رئيسهم وركبهم المسلمون فقتلوا من شاؤوا منهم وأصابوا ما شاؤوا من الغنائم، وبعث الأخماس إلى أبي بكر مع سخريت، وازداد عكرمة وجنده قوة بالظهر والمتاع، وأقام عكرمة حتى اجتمع الناس على الذي يحب وبايعوا على الإسلام.
دبا بفتح الباء الموحدة المخففة، وفتح الدال المهملة. والخريت بكسر الخاء المعجمة، وتشديد الراء المهملة الممكسورة ثم ياء مثناة من تحتها، وآخره تاء. وسيحان بفتح السين المهملة، وبالياء المثناة من تحت، وبالحاء المهملة، وآخره نون.

.ذكر خبر ردة اليمن:

لما توفي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وعلى مكة وأرضها عتاب بن أسيد، وعلى عك والأشعريين الطاهر بن أبي هالة، وعلى الطائف عثمان ابن أبي العاص ومالك بن عوف النصري، عثمان على المدن، ومالك على أهل الوبر، وبصنعاء فيروز وداذويه يسانده وقيس بن مكشوح، وعلى الجند يعلى بن أمية، وعلى مأرب أبو موسى، وكان منهم مع الأسود الكذاب ما ذكرناه. فلما أهلك الله الأسود العنسي بقي طائفة من أصحابه يترددون بين صنعاء ونجران لا يأوون إلى أحد. ومات النبي، صلى الله عليه وسلم، على أثر ذلك، فارتد الناس، فكتب عتاب بن أسيد إلى أبي بكر يعرفه خبر من ارتد في عمله، وبعث عتاب أخاه خالداً إلى أهل تهامة وبها جماعة من مدلج وخزاعة وأبناء كنانة.
وأما كنانة عليهم جندب بن سلمى، فالتقوا بالأبارق، فقتلهم خالد وفرقهم، وأفلت جندب وعاد، وبعث عثمان بن أبي العاص بعثاً إلى شنوءة وبها جماعة من الأزد وبجيلة وخثعم، وعليهم حميضة بن النعمان، واستعمل عثمان على السرية عثمان بن أبي ربيعة، فالتقوا بشنوءة، فانهزم الكفار وتفرقوا، وهرب حميضة في البلاد.
وأما الأخابث من العك فكانوا أول منتقض بتهامة بعد النبي، صلى الله عليه وسلم، ثم تجمع عك والأشعريون، وأقاموا على الأعلاب طريق الساحل، فسار إليهم الطاهر بن أبي هالة ومعه مسروق وقومه من عك ممن لم يرتد، فالتقوا على الأعلاب، فانهزمت عك ومن معهم وقتلوا قتلاً ذريعاً، وأنتنت السبل لقتلهم وكان ذلك فتحاً عظيماً. وورد كتاب أبي بكر على الطاهر يأمره بقتالهم، وسماهم الأخابث، وسمى طريقهم طريق الأخابث، فبقي الاسم عليهم إلى الآن.
وأما أهل نجران فلما بلغهم موت النبي، صلى الله عليه وسلم، أرسلوا وفداً ليجددوا عهدهم مع أبي بكر، فكتب بذلك كتاباً.
وأما بجيلة فإن أبا بكر رد جرير بن عبد الله وأمره أن يستنفر من قومه من ثبت على الإسلام ويقاتل بهم من ارتد على الإسلام وأن يأتي خثعم فيقاتل من خرج غضباً لذي الخلصة، فخرج جرير وفعل ما أمره، فلم يقم له أحد إلا نفر يسير، فقتلهم وتتبعهم.
حميضة بالحاء المهملة المضمومة، والضاد المعجمة.

.ذكر خبر ردة اليمن ثانية:

وكان ممن ارتد ثانية قس بن عبد يغوث بن مكشوح، وذلك أنه لما بلغه موت النبي، صلى الله عليه وسلم، عمل في قتل فيروز وجشيش، وكت أبو بكر إلى عمر ذي مران وإلى سعيد ذي زود وإلى ذي الكلاع وإلى حوشب ذي ظليم وإلى شهر ذي نياف يأمرهم بالتمسك بدينهم والقيام بأمر الله، ويأمرهم بإعانة الأبناء على من ناوأهم، والسمع لفيروز، وكان فيروز وداذويه وقس قبل ذلك متساندين. فلما سمع قيس بذلك كتب إلى ذي الكلاع وأصحابه يدعوهم إلى قتل الأبناء وإخراج أهلهم من اليمن، فلم يجيبوه ولم ينصروا الأبناء. فاستعد لهم قيس وكاتب أصحاب الأسود المترددين في البلاد سراً يدعوهم ليجتمعوا معه، فجاؤوا إليه، فسمع بهم أهل صنعاء فقصد قيس فيروز وداذويه فاستشارهما في أمره خديعةً منه ليلبس عليهما، فاطمأنا إليه. ثم إن قيساً صنع من الغد طعاماً ودعا داذويه وفيروز وجشيش، فخرج داذويه فدخل عليه فقتله، وجاء إلى فيروز، فلما دنا منه سمع امرأتين على سطحين تتحدثان فقالت إحداهما: هذا مقتول كما قتل داذويه، فخرج. فطلبه أصحاب قيس، فخرج يركض، ولقيه جشيش فرجع معه فتوجها نحو جبل خولان، وهم أخوال فيروز، فصعد الجبل، ورجعت خيول قيس فأخبروه، فثار بصنعاء وما حولها وأتته خيول الأسود.
واجتمع إلى فيروز جماعة من الناس، وكتب إلى أبي بكر يخبره، واجتمع إلى قيس عوام قبائل من كتب إلى أبو بكر إلى رؤسائهم، واعتزل الرؤساء، وعمد قيس إلى الأبناء ففرقهم ثلاث فرق: من أقام أقر عياله، والذين ساروا مع فيروز فرق عيالهم فرقتين فوجه إحداهما إلى عدن ليحملوا في البحر وحمل الأخرى في البر، وقال لهم جميعهم: الحقوا بأرضكم.
فلما علم فيروز ذلك جد في حربه وتجرد لها وأرسل إلى بني عقيل بن ربيعة بن عامر يستمدهم، وإلى عك يستمدهم، فركبت عقيل وعليهم رجل من الحلفاء يقال له معاوية، فلقوا خيل قيس بن عامر ومعهم عيالات الأبناء الذين كان قد سيرهم قيس فاستنقذوهم وقتلوا خيل قيس. وسارت عك وعليهم مسروف فاستنقذوا طائفة أخرى من عيالات الأبناء وقتلوا من معهم من أصحاب قيس، وأمدت عقيل وعك فيروز بالرجال. فلما أتته أمدادهم خرج بهم وبمن اجتمع عنده فلقوا قيساً دون صنعاء فاقتتلوا قتالاً شديداً، وانهزم قيس وأصحابه وتذبذب أصحاب العنسي وقيس معهم فيما بين صنعاء ونجران.
قيل: وكان فروة بن مسيك قدم على النبي، صلى الله عليه وسلم، مسلماً فياستعمله النبي، صلى الله عليه وسلم، على صدقات مراد ومن نازلهم ونزل دارهم.
وكان عمرو بن معدي كرب الزبيدي قد فارق قومه سعد العشيرة وانحاز إليهم وأسلم معهم، فلما ارتد العنسي ومعه مذحج ارتد عمرو فيمن ارتد، وكان عمرو مع خالد بن سعيد بن العاص، فلما ارتد سار إليه خالد فلقيه فضربه خالد على عاتقه فهرب منه، وأخذ خالد سيفه الصمصامة وفرسه، فلما ارتد عمرو جعله العنسي بإزاء فروة، فامتنع كل واحد منهما من البراح لمكان صاحبه. فبينما هم كذلك قدم عكرمة بن أبي جهل أبين من مهرة، وقد تقدم ذكر قتال مهرة، ومعه بشر كثير من مهرة وغيرهم، فاستبرى النخع وحمير، وقدم أيضاً المهاجرين بن أبي أمية في جمع من مكة والطائف وبجيلة مع جرير إلى نجران، فانضم إليه فروة بن مسيك المرادي، فأقبل عمرو بن معدي كرب مستجيباً حتى دخل على المهاجر من غير أمان، فأوثقه المهاجر، وأخذ قيساً أيضاً فأوثقه وسيرهما إلى أبي بكر، فقال: يا قيس قتلت عباد الله واتخذت المرتدين وليجة من دون المؤمنين وهم بقتله لو وجد أمراً جلياً! فانتفى قيس من أن يكون قارف من أمر داذويه شيئاً، وكان قتله سراً، فتجافى له عن دمه وقال لعمرو: أما تستحي أنك كل يوم مهزوم أو مأسور؟ لو نصرت هذا الدين لرفعك الله. فقال: لا جرم لأقبلن ولا أعود. ورجعا إلى عشائرهما. فسار المهاجر من نجران والتقت الخيول على أصحاب العنسي فاستأمنوا فلم يؤمنهم وقتلهم بكل سبيل، ثم سار إلى صنعاء فدخلها وكتب إلى أبي بكر بذلك.

.ذكر ردة حضرموت وكندة:

لما توفي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وعماله على بلاد حضرموت: زياد بن أبي لبيد الأنصاري على حضرموت، وعكاشة بن أبي أمية على السكاسك والسكون، والمهاجر بن أبي أمية على كندة، استعمله النبي، صلى الله عليه وسلم، ولم يخرج إليها حتى توفي النبي، صلى الله عليه وسلم، فبعثه أبو بكر إلى قتال من باليمن ثم المسير بعد إلى عمله، وكا قد تخلف عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بتبوك فرجع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو عاتب عليه، فبينما أم سلمة تغسل رأس النبي، صلى الله عليه وسلم، قالت: كيف ينفعني عيش وأنت عاتب على أخي؟ فرأت منه رقة، فأومأت إلى خادمها فدعته، فلم يزل بالنبي، صلى الله عليه وسلم، يذكر عذره حتى رضي عنه واستعمله كل كندة. فتوفي النبي، صلى الله عليه وسلم، ولم يسر إلى عمله ثم سار بعده.
وكان سبب ردة كندة وإجابتهم الأسود الكذاب حتى لعن النبي، صلى الله عليه وسلم، الملوك الأربعة منهم، أنهم لما أسلموا أمر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن يوضع بعض صدقة حضرموت في كندة، وبعض صدقة كندة في حضرموت، وبعض صدقة حضرموت في السكون، وبعض صدقة السكون في حضرموت، فقال بعض بني وليعة: من كندة لحضرموت ليس لنا ظهر، فإن رأيتم أن تبعثوا إلينا بذلك على ظهر. قالوا: فإنا ننظر فإن لم يكن لكم ظهر فعلنا. فلما توفي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قالت بنو وليعة: أبلغونا كما وعدتم رسول الله، صلى الله عليه وسلم! فقالوا: إن لكم ظهراً فاحتملوا، فقالوا لزياد: أنت معهم علينا. فأبى الحضرميون ولج الكنديون ورجعوا إلى دارهم وترددوا في أمرهم، وأمسك عنهم زياد انتظاراً للمهاجر.
وكان المهاجر لما تأخر بالمدنية قد استخلف زياداً على عمله، وسار المهاجر من صنعاء إلى عمله وعكرمة بن أبي جهل أيضاً، فنزل أحدهما على الأسود والآخر على وائل، وكان زياد بن لبيد قد ولي صدقات بني عمرو بن معاوية من كندة بنفسه، فقدم عليهم، فكان أول من انتهى إليه منهم شيطان بن حجر، فأخذ منهم بكرةً ووسمها، فإذا الناقة للعداء بن حجر أخي شيطان وليست عليه صدقة، وكان أخوه قد أوهم حين أخرجها، وكان اسمها شذرة، وظنها غيرها، فقال العداء: هذه ناقتي. فقال شيطان: صدق فأطلقها وخذ غيرها. فرأى زياد أن ذلك منه اعتلال فاتهمه زياد بالكفر ومباعدة الإسلام، فمنعهما عنها وقال: صارت في حق الله. فلجا في أخذها، فقال لهما: لا تكونن شذرة عليكم كالبسوس. فنادى العداء: يا آل عمرو أضام وأضطهد! إن الذليل من أكل في داره! ونادى حارثة بن سراقة بن معدي كرب، فأقبل إلى زياد وهو واقف، فقال: أطلق بكرة الرجل وخذ غيرها. فقال زياد: ما لي إلى ذلك سبيل. فقال حارثة: ذاك إذا كنت يهوديياً وعاج إليها؛ وأطلق عقالها ثم ضرب على جنبها وبعثها وقام دونها، فأمر زياد شباباً من حضرموت والسكون فمنعوه وكتفوه وكتفوا أصحابه وأخذوا البكرة، وتصايحت كندة وغضبت بنو معاوية لحارثة وأظهروا أمرهم، وغضبت حضرموت والسكون لزياد، وتوافى عسكران عظيمان من هؤلاء، ولم يحدث بنو معاوية شيئاً لمكان أسرائهم، ولم يجد أصحاب زياد سبيلاً يتعلقون به عليهم، وأمرهم زياد بوضع السلاح فلم يفعلوا، وطلبوا أسراءهم فلم يطلقهم، ونهد إليهم ليلاً فقتل منهم وتفرقوا، فلما تفرقوا أطلق حارثة ومن معه. فلما رجع الأسرى إلى أصحابهم حرضوهم على زياد ومن معه، واجتمع منهم عسكر كثير ونادوا بمنع الصدقة، فأرسل الحصين بن نمير إليهم فما زال يسفر فيما بينهم وبين زياد وحضرموت والسكون حتى سكن بعضهم عن بعض، فأقاموا بعد ذلك يسيراً.
ثم إن بني عمرو بن معاوية من كندة نزلوا المحاجر، وهي أحماء حموها، فنزل جمد محجراً ومخوص محجراً ومشرح محجراً وأبضعه محجراً وأختهم العمردة محجراً، وهم الملوك الأربعة رؤساء عمرو الذين لعنهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقد ذكروا قبل. ونزلت بنو الحارث ابن معاوية محاجرها، فنزل الأشعث بن قيس محجراً، والسمط بن الأسود محجراً، وأطبقت بنو معاوية كلها على منع الصدقة إلا شرحبيل بن السمط وابنه، فإنهما قالا لبني معاوية: إنه لقبيح بالأحرار التنقل، إن الكرام ليلزمون الشبهة فيتكرمون أن ينتقلوا إلى أوضح منها مخافة العار، فكيف الانتقال من الأمر الحسن الجميل والحق إلى الباطل القبيح! اللهم إنا لا نمالىء قومنا على ذلك. وانتقل ونزل مع زياد ومعهما امرؤ القيس بن عابس، وقالا له: بيت القوم فإن أقواماً في السكاسك والسكون قد انضموا إليهم وكذلك شذاذ من حضرموت، فإن لم تفعل خشينا أن تتفرق الناس عنا إليهم. فأجابهم إلى تبييت القوم، فاجتمعوا وطرقوهم في محاجرهم فوجدوهم جلوساً حول نيرانهم، فأكبوا على بني عمرو بن معاوية، وفيهم العدد والشوكة من خمسة أوجه، فأصابوا مشرحاً ومخوصاً وجمداً وأبضعة وأختهم العمردة، وأدركتهم لعنة النبي، صلى الله عليه وسلم، وقتلوا فأكثروا، وهرب من أطاق الهرب، وعاد زياد بن لبيد بالأموال والسبي، واجتازوا بالأشعث، فثار في قومه فاستنقذهم وجمع الجموع.
وكتب زياد إلى المهاجر يستحثه، فلقيه الكتاب بالطريق فاستخلف على الجند عكرمة بن أبي جهل وتعجل في سرعان الناس وقدم على زياد وسار إلى كندة، فالتقوا بمحجر الزرقان فاقتتلوا، فانهزمت كندة وقتلت وخرجوا هراباً فالتجأوا إلى النجير، وقد رموه وأصلحوه. وسار المهاجر فنزل عليهم واجتمعت كندة في النجير فتحصنوا به فحصرهم المسلمون، وقدم إليهم عكرمة، فاشتد الحصر على كندة وتفرقت السرايا في طلبهم فقتلوا منهم، وخرج من بالنجير من كندة وغيرهم فقاتلوا المسلمين فكثر فيهم القتل فرجعوا إلى حصنهم وخشعت نفوسهم وخافوا القتل وخاف الرؤساء على نفوسهم. فخرج الأشعث ومعه تسعة نفر فطلبوا من زياد أن يؤمنهم وأهليهم على أن يفتحوا له الباب. فأجابهم إلى ذلك وقال: اكتبوا ما شئتم ثم هلموا الكتاب حتى أختمه. ففعلوا، ونسي الأشعث أن يكتب نفسه لأجحدماً وثب عليه بسكين، فقال: تكتبني أو أقتلك؟ فكتبه ونسي نفسه، ففتحوا الباب فدخل المسلمون فلم يدعوا مقاتلاً إلا قتلوه وضربوا أعناقهم صبراً وأخذوا الأموال والسبي. فلما فرغوا منهم دعا الأشعث أولئك النفر والكتاب معهم فعرضهم، فأجار من في الكتاب، فإذا الأشعث ليس منهم، فقال المهاجر: الحمد لله الذي خطأ فاك يا أشعث يا عدو الله! قد كنت أشتهي أن يخزيك الله! وشدة كتافاً، فقيل له: أخره وسيره إلى أبي بكر فهو أعلم بالحكم فيه، فسيره إلى أبي بكر مع السبي.
وقيل: إن الحصار لما اشتد على من بالنجير نزل الأشعث إلى المهاجر وزياد والمسلمين فسألهم الأمان على دمه وماله حتى يقدموا به على أبي بكر فيرى فيه رأيه على أن يفتح لهم النجير ويسلم إليهم من فيه وغدر بأصحابه، فقبلوا ذلك منه، ففتح لهم الحصن، فاستنزلوا من فيه من الملوك فقتلوهم وأوثقوا الأشعث وأرسلوه مع السبي إلى أبي بكر، فكان المسلمون يلعنونه ويلعنه سبايا قومه، وسماه نساء قومه عرف النار، وهم اسم الغادر عندهم. فلما قدم المدينة قال له أبو بكر: ما تراني أصنع بك؟ قال: لا أعلم. قال: فإني أقتلك. قال: فأنا الذي راوضت القوم في عشرة فما يحل دمي. قال: إنما وجب الصلح بعد ختم الصحيفة على من فيها، وإنما كنت قبل ذلك مراوضاً. فلما خشي القتل قال: أو تحتسب في خيراً فتطلق إساري وتقيلني عثرتي وتفعل بي مثل ما فعلت بأمثالي وترد علي زوجتي؟ وقد كان خطب أم فروة أخت أبي بكر لما قدم على النبي، صلى الله عليه وسلم، وأخرها إلى أن يقدم الثانية، فمات النبي، صلى الله عليه وسلم، وارتد؛ فإن فعلت ذلك تجدني خير أهل بلادي لدين الله. فحقن دمه ورد عليه أهله وأقام بالمدينة حتى فتح العراق وقسم الغنائم بين الناس.
وقيل: إن عكرمة قدم بعد الفتح فقال زياد والمهاجر لمن معهما: إن إخوانكم قدموا مدداً لكم فأشركوهم في الغنيمة، ففعلوا وأشركوهم.
ولما ولي عمر بن الخطاب قال: إنه لقبيح بالعرب أن يملك بعضهم بعضاً، وقد وسع الله عز وجل وفتح الأعاجم. واستشار في فداء سبايا العرب في الجاهلية والإسلام إلا امرأة ولدت لسيدها، وجعل فداء لكل إنسان ستة أبعرة أو سبعة إلا حنيفة وكندة فإنه خفف عليهم لقتل رجالهم فتتبع النساء بكل مكان فقدوهن.
وفيها انصرف معاذ بن جبل من اليمن. وفيها استقضى أبو بكر عمر بن الخطاب، وكان يقضي بين الناس خلافته كلها. وحج بالناس في هذه السنة عتاب بن أسيد، وقيل عبد الرحمن بن عوف.
النجير، بضم النون، وفتح الجيم، وسكون الياء تحتها نقطتان وآخره راء: حصن باليمن منيع. ثم دخلت: